فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: {فَإنٍ تنازعتم فِي شَىْء} فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقًا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين {فَرُدُّوهُ} فراجعوا فيه {إِلَى الله} أي إلى كتابه {والرسول} أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم.
وجعل بعضهم: الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضًا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل، وقيل: على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى»، وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضًا كرم الله تعالى وجهه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبًا فجمعوا له حطبًا قال: أوقدوا نارًا فأوقدوا نارًا قال: ألم يأمركم صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام «لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف» وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضًا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرًا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنًا أيضًا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرًا فقط أو المأمور فيجب باطنًا أيضًا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبًا عند الآمر أو لا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة، وبالرد إليهما القياس لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئًا وراء ذلك، وقد علم من قوله سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع.
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه، والكلام على حد إن كنت ابني فأطعني فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة {ذلك} أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل كما قيل على جميع ما سبق على التفريع لحسن.
وقال الطبرسي: إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام {خَيْرٌ} لكم وأصلح {وَأَحْسَنُ} أي أحمد في نفسه {تَأْوِيلًا} أي عاقبة، قاله قتادة والسدي وابن زيد، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم، وقيل: المراد: خير لكم في الدنيا وأحسن عاقبة في الآخرة، ووجه التقديم عليه أظهر.
وعن الزجاج أن المراد: أحسن تأويلًا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه، وكلاهما حقيقة، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
لمّا أمر الله الأمّة بالحكم بالعدل عقّب ذلك بخطابهم بالأمر بطاعة الحكّام ولاة أمورهم؛ لأنّ الطاعة لهم هي مظهر نفوذ العدل الذي يحكم به حكّامهم، فطاعة الرسول تشتمل على احترام العدل المشرّع لهم وعلى تنفيذه، وطاعة ولاة الأمور تنفيذ للعدل، وأشار بهذا التعقيب إلى أنّ الطاعة المأمور بها هي الطاعة في المعروف، ولهذا قال عليّ: حقّ على الإمام أن يحكم بالعدل ويودّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة، فإنّ الله هو منزّل الشريعة ورسوله مبلّغها والحاكم بها في حضرته.
وإنّما أعيد فعل: {وأطيعوا الرسول} مع أنّ حرف العطف يغني عن إعادته إظهارًا للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر، ولينبّه على وجوب طاعته فيما يأمر به، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي لئلاّ يتوهّم السامع أنّ طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلّغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع، فإنّ امتثال أمره كلّه خير، ألا ترى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد بن المعلَّى، وأبو سعيد يصلي، فلم يجبه فلمّا فرغ من صلاته جاءه فقال له: «ما منَعك أن تجيبني» فقال: «كنت أصلّي» فقال: «ألم يقل الله: {يأيّها الذين آمنو استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} [الأنفال: 24]»؛ ولذلك كانوا إذا لم يعلموا مراد الرسول من أمره ربما سألوه: أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر، كما قال له الحباب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نجتازه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل الرأي والحرب والمكيدة... الحديث.
ولمّا كلّم بريرة في أن تراجع زوجها مُغيثًا بعد أن عَتَقَتْ، قالت له: أتأمرُ يا رسول الله أم تشفع، قال: بل أشفع، قالت: لا أبقى معه.
ولهذا لم يُعَدْ فعل {فُردّوه} في قوله: {والرسول} لأنّ ذلك في التحاكم بينهم، والتحاكم لا يكون إلاّ للأخذ بحكم الله في شرعه، ولذلك لا نجد تكريرًا لفعل الطاعة في نظائر هذه الآية التي لم يعطف فيها أولو الأمر مثل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون} [الأنفال: 20] وقوله: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا} [الأنفال: 46] {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} [النور: 52]، إذ طاعة الرسول مساوية لطاعة الله لأنّ الرسول هو المبلّغ عن الله فلا يتلقّى أمر الله إلاّ منه، وهو منقّذ أمر الله بنفسه، فطاعته طاعة تلقّ وطاعةُ امتثال، لأنه مبلّغ ومنقّذ، بخلاف أولي الأمر فإنّهم منقّذون لما بلغّه الرسول فطاعتهم طاعة امتثال خاصّة.
ولذلك كانوا إذا أمرهم بعمل في غير أمور التشريع، يسألونه أهذا أمر أم رأي وإشارة فإنّه لمّا قال للذين يأبرون النخل «لو لم تفعلوا لصَلَح». وقوله: {وأولي الأمر} يعني ذويه وهم أصحاب الأمر والمتولّون له.
والأمر هو الشأن، أي ما يهتمّ به من الأحوال والشؤون، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم، فلذلك يقال لهم: ذَوو الأمر وأولو الأمر، ويقال في ضدّ ذلك: ليس له من الأمر شيء.
ولمّا أمر الله بطاعة أولي الأمر علمنا أنّ أولي الأمر في نظر الشريعة طائفة معيّنة، وهم قدوة الأمّة وأمناؤها، فعلمنا أنّ تلك الصفة تثبت لهم بطرق شرعية إذ أمور الإسلام لا تخرج عن الدائرة الشرعية، وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة.
فأهل العلم العدولُ: من أولي الأمر بذاتهم لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم.
قال مالك: أولو الأمر: أهل القرآن والعلم يعني أهل العلم بالقرآن والاجتهاد، فأولو الأمر هنا هم من عدا الرسول من الخليفة إلى والي الحسبة، ومن قواد الجيوش ومن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يطلق عليهم أيضًا أهل الحلّ والعقد.
وإنّما أمر بذلك بعد الأمر بالعدل وأداء الأمانة لأنّ هذين الأمرين قوام نظام الأمّة وهو تناصح الأمراء والرعية وانبثاث الثقة بينهم.
ولمّا كانت الحوادث لا تخلو من حدوث الخلاف بين الرعيّة، وبينهم وبين ولاة أمورهم، أرشدهم الله إلى طريقة فصل الخلاف بالردّ إلى الله وإلى الرسول.
ومعنى الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه، كما دلّ على ذلك قوله في نظيره {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله} [المائدة: 104].
ومعنى الردّ إلى الرسول إنهاء الأمور إليه في حياته وحضرته، كما دلّ عليه قوله في نظيره {إلى الرسول} [النساء: 83] فأمّا بعد وفاته أو في غيبَتِه، فالردّ إليه الرجوع إلى أقواله وأفعاله، والاحتذاء بسُنّته.
روى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا ألْفِيَنَّ أحدَكم متّكئًا على أريكته يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه».
وفي روايته عن العرباض ابن سارية أنْه سمع رسول الله يخطب يقول: «أيحسب أحدكم وهو متّكئ على أريكته وقد يَظنّ أنّ الله لم يحرّم شيئًا إلاّ ما في هذا القرآن ألا وإنّي والله قد أمَرْت ووعظت ونهيت عن أشياء إنّها لمثل القرآن أو أكثر» وأخرجه الترمذي من حديث المقدام.
وعرض الحوادث على مقياس تصرّفاته والصريح من سنّته.
والتنازعُ: شدّة الاختلاف، وهو تفاعل من النزع، أي الأخذ، قال الأعشى:
نازعتُهم قُضب الريحان متّكئًا ** وقهوةً مُزة رَاوُوقها خَضِل

فأطلق التنازع على الاختلاف الشديد على طريق الاستعارة، لأنّ الاختلاف الشديد يشبه التجاذبَ بين شخصين، وغلب ذلك حتّى ساوى الحقيقة، قال الله تعالى: {ولا تَنَازَعُوا فَفْشَلوا} [الأنفال: 46] {فتنازعوا أمرهم بينهم وأسّروا النجوى} [طه: 62].
وضمير {تنازعتم} راجع للذين آمنوا فيشمل كلّ من يمكن بينهم التنازع، وهم مَن عدا الرسولَ، إذ لا ينازعه المؤمنون، فشمل تنازع العموم بعضهم مع بعض، وشمل تنازع ولاة الأمور بعضهم مع بعض، كتنازع الوزراء مع الأمير أو بعضهم مع بعض، وشمل تنازع الرعية مع ولاة أمورهم، وشمل تنازع العلماء بعضهم مع بعض في شؤون علم الدين.
وإذا نظرنا إلى ما ذكر في سبب النزول نجد المراد ابتداء هو الخلاف بين الأمراء والأمّة، ولذلك نجد المفسّرين قد فسّروه ببعض صور من هذه الصور، فليس مقصدهم قصر الآية على ما فسّروا به، وأحسن عباراتهم في هذا قول الطبري: يعني فإن اختلفتم أيّها المؤمنون أنتم فيما بينكم أو أنتم وأولو أمركم فيه. وعن مجاهد: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله.